الواسطة و التوريث وجهان لعملة واحدة, عملة شديدة الرواج داخل المجتمع المصري. و هي عملة بادر الشعب بطرحها ثم طالب الدولة بصكها فأيدتها الدولة بصمت مشين ثم قننتها حتى صار في الدولة مؤسسات تضع بنودا في لوائحها تمنح أولوية لتعيين أبناء العاملين.
وأعتقد ان ذلك خطأ جسيم ارتكبه المجتمع في حق نفسه حينما طالب بمثل هذه اللوائح ظنا أنها ميزة للعاملين, و هو تفكير ساذج و قاصر. خطأ تسترت علية الدولة بمثقفيها و مشرعيها نتج عنه تشوه اجتماعي و سلوكي بين الناس , ضرره أشد عمقا و تأثيرا من ذلك الظلم الذي لحق بأجيال متلاحقة ختمت شهاداتهم بختم رسمي يقول "غير خاضعة لمبدأ تكافؤ الفرص".
ضرر بدأ بالآباء و الأمهات الآخرين الذين لم تمنحهم أماكن عملهم ميزة تعيين أبنائهم ولكن النظام الجديد دون أن يدري حملهم مسؤولية إيجاد فرصة العمل لأبنائهم بأي طريقة أخرى. و حيث أن الجميع لدية أبناء, انتشر في المجتمع مبدأ "الخدمات المتبادلة" واتسع ليشمل الأقارب و المعارف و أصبح أمرا طبيعيا أن يطلب شخص من أحد معارفه تعيين قريب له, "و داين تدان".
و ازدادت الظاهرة انتشارا بتدهور الأحوال الاقتصادية و ندرة فرص العمل و أصبح لزاما علي الشعب الطيب المتدين أن يلبس السلوك المشين لباسا دينيا أخلاقيا, فصار "عمل الخير" و "الأقربون أولى بالمعروف" هو الغطاء الشرعي لهذا السلوك, و تكفل الزمن و مشايخه بطمس حقيقة السلوك المشين (حيث أن خطب الجمعة و دروس المساجد لم تنته بعد من شرح العبادات قبل الدخول في باب المعاملات).
ولا أتصور انه بقي شخص في المجتمع لم يشارك بعد في هذه الرذيلة , إما طالبا لها دون أي شعور باستحياء أو خجل أو مجيبا لها دون أي شعور بذنب أو خطيئة تجاه شخص مجهول سلب منه حقا قبل أن يعرفه ويطالب به. وفي فترة زمنية قصيرة, تحول كل فرد في المجتمع إلى سارق و مسروق في ذات الوقت.
امتد الضرر ليطول نظاما سياسيا جديدا لإدارة شئون الدولة يسمى بالنظام الديمقراطي. نظاما اثبت نجاحا في دول عديدة و يعزى إلية الفضل في نهضة و تقدم أمم كنا قد سبقناها في عهود و أزمان ماضيه.
ولكن للأسف قرأ المجتمع المصري الديمقراطية على أنها حق كل مواطن في عدد اثنين واسطة حكومية ذات نفوذ (واحدة عمال وواحدة فئات), تستطيع أن توظف قريبا أو تمنح ترخيصا, فقط إذا أحسن المواطن الاختيار. و تحت ضغط الحاجة و قلة الوعي وتحييد الدين, يفضل المواطن اختيار صاحب النفوذ, الذي يقدم له خدمة أو مصلحة شخصية و في أحسن الأحوال "خدمة الدائرة". وهذه مأساة كبرى أصعب من التزوير. مأساة نتجاهلها عمدا حين نكتفي بالحديث عن مشكلة المرشح الراشي ولا نتوقف عند مصيبة الناخب المرتشي!
متناسين أن المرشح هو في الأصل ناخب , أب وأخ وخال وعم و جار و زميل بقية الناخبين الذين هم أصل العلة و موطن الداء. هو نتاجا طبيعيا لهم و سلوكه هو مرآه حقيقية لسلوكهم. فتجار المخدرات و الهاربون من التجنيد ورجال الصفقات المشبوهة والقروض هم عناصر طبيعية في صوره تحوي شعبا يعشق الدخان, و شبابا يرفضون التجنيد وان لم يستطيعوا الهروب ثم موظفين و عمالا يحسنون دخولهم إما بالرشوة المباشرة أو بتسول "الحلاوة" و "كل سنة وأنت طيب يا بيه".
إن معيار اختيار المواطن المصري لمن يمثله في أي مجال أصبح إما فاسدا أو مشوها, يعلى المصلحة الخاصة على المصلحة العامة. وفي حال صعوبة الحصول على منفعة شخصية مباشرة, يلجأ المواطن إلى اختيارا ساذجا سطحيا مدفوعا بعصبية النوع (رجل أو امرأة) أو عصبية عائلية أو دينية.
والمشكلة ازدادت تعقيدا بعد أن أثبت مجتمع "الخدمات المتبادلة" أنه لم يعد قادرا على إفراز أو انتخاب طبيعي لأي عناصر أو وجوه قادرة على النهوض بالأمة. فالساحة مفتوحة فقط للشخص "الخدوم" الذي يستخدم نفوذه في أقسام الشرطة و علاقاته في الحصول على تأشيرات واستثناءات لأبناء دائرته. وهؤلاء في النهاية أشخاص لا يمكن أن تنهض بهم أمة أو يرقى بهم مجتمع.
أجيال متلاحقة فقدت قيمه أساسيه من أهم أسباب تقدم الأمم وهي قيمة الاجتهاد.
وعلى مستوى العامة, فهناك آلاف مؤلفة من أبناء هذا الجيل, جالسين على مكاتب في مصالح و هيئات و شركات كان أو لا يزال يعمل بها أحد الوالدين أو معارفهم.
حقا إننا مجتمع من المنافقين, و إذا حدث ما نخشاه فهو أقل مما نستحق.